كنيسة بيت ايل المحلية - حيفا



الغُفران

يكتب الرسول بولس الى القديسين في أفسس وللأمناء في المسيح يسوع , مذكِّراً إيّاهم بأنّهم بوركوا بكُلِّ بركةٍ روحيّة في السّماويّات في المسيح . مركز كهذا من الإمتيازات يوجب نظيرهُ من المسؤوليّات والواجبات . كذلك حذّرنا كاتب العبرانيين من تجاهل " خلاصاً ثميناً " بهذا المقدار , وهو وجهٌ واحدٌ من الغنى ومجال عمل تلك البركات وعظمة ذلك الخلاص , وهو موضوع حديثنا بهذا المقال. عند معالجة موضوع بركة الغفران نلاحظ أوّلاً :

ثمن الغفران

عندما إجتمع الرب يسوع المسح مع تلاميذه بعيد الفصح أظهر لهم المعنى الحقيقي لموته , إذ كان مزمعاً تقديم دمه " الّذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا " ( مت 26 : 28 ) لقد كان هذا دائماً صحيحاً : بدون سفك دم لا تحصل مغفرة ( عب 9 : 22 )  وأمّا الآن فدم المسيح ( ليس النّزف بل حقيقة موت الرب يسوع المسيح ) يُحضِر الخاطيء الى بركة المسامحة الكاملة والغفران "  الّذي لنا فيهالفداء بدمه غفران الخطايا , حسب غنى نعمته " ( أف 1 : 7 ) نضيف على هذا شهادة مرقس "  كان يوحنّا يعمّد في البريّة ويكرز بمعموديّة التّوبة لمغفرة الخطايا . " ( مر 1 : 4 )  .

 

الإعلان الرّسمي للغفران

بعد قيامة الرب يسوع المسيح , ظهر لتلاميذه حالاً وقال لهم : " ..هكذا هو مكتوب , وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألّم ويقوم من الأموات في اليوم الثّالث . وأن يُكرز باُسمهِ بالتَّوبَةِ ومغفرة الخطايا لجميع الأمم .. " ( لو 24 : 47,46 ) الغفران هو غفران الله ومن الله . ويجب أن يُعلَن بإسم المسيح . تشتقّ البركة قيمتها من موته , وإعتبار شخصه وكماله . يشمل الغفران كل الكون " وأن يُكرَز بإسْمِهِ ..لجميع الأمم .." لذلك بحديث بطرس مع كرنيليوس لم يميّز بين اليهودي والأممي ولكنّه أدرك الحق بأنّ " .. الله لا يقبل الوجوه . بل في كلّ أمَّةٍ الّذي يتّقيهِ ويصنع البر مقبول  عندهُ  "  ( أع 10 : 34 , 35 )  . يحضرنا هذا الى :

 

وعد الغفران

لا تخص هذه البركة ذاك الّذي يعمل ليحصّل خلاصه , بل لكل " من يؤمن به ينالباسمه غفران الخطايا " ( أع 10 : 34 , 35 ) . لا يُعطى غفران الخطايا للمستحقّين بل للمؤمنين . دعنا الآن لنعتبر بعض الأوجه من الحق المتضمّن بهذه الكلمة " الغفران ". الكلمة اليونانيّة ( aphesis ) ذات معاني غنيّة .وتُرجمت الى عدّة كلمات فمنها : مغفرة , غفران , إطلاق وحريّة . يدلٌّ هذا على شموليّة المعنى , غنى ووفرة الغفران . لا يعني الغفران المسامحة التّامَّة والمطلقة فقط , على أساس النّعمة المهيمنة وحدها , بل تتضمّن أيضاً التّحرير والفكاك من القيود . ألرب يسوع نفسه هو الّذي وضّح الأمر وصرّح به عندما وقف في المجمع يوم السّبت ليقرأ "فدفع اليه سفر أشعيا النبي . ولمّا فتح السّفر  وجد الموضع الّذي كان مكتوب فيه روح الرب علي لانّه مسحني لأبشّر المساكين , أرسلني لأشفي المنكسري القلوب , لأنادي للمأسورين بالإطلاق (aphesis)وللعمي بالبصر , وأرسل المنسحقين في الحريّة (aphesis ) " ( لو 4 : 17 - 18 ) . فللمؤمن بالمسيح هناك الحريّة كما أيضاً المسامحة .  

مـَنْ لِلأسِيرْ الْعانِــي               في مَوْقــِفِ الأَهْــوالْ

في الكَرْبِ والأَحْزان ِ                 وَخـَـيـْـبـَـةِ الآمـالْ

نـادَيـْتُ إِذْ أَعـْيــانِي          حِمْلِي وَضَيقي طالْ

يـا ربِّ زِدْ إِيــمــانِي         وَفـُكَّ لـــِي الأَغـْــلالْ

 بل أكثر من ذلك , فالمؤمن لم ينل المسامحة فقط , بل تحرّر وأُطِلقَ سراحه . بل قد أُعيد الى مركزه الأصلي في المسيح . إنّه لم يُطلقنا من قوّة براثن الظُّلمة فقط , بل نقلنا الى ملكوت إبن محبّته . فيقول المرنّم :

إِنِّــي لَفــي اُحْـتـِـياج ٍ           إلـَيـْكَ يـا غَــفــورْ

يا رَبُّ نَقِّي نـَفْــسـي                   مــنْ دَنـَسِ الـشُّرورْ

دَمُ المَسيح ِ الفادي                            يـُطَّـهِّرِ الـْقُـلـوبْ

فَتُـبْ إِلــَيـْهِ يـــا مـَنْ         غَـرِقـْتَ فـي الذُّنوب ْ

نلاحظ في الغفران عمقاً أكثر من مجرّد المقايضة , الأطلاق والمسامحة فقط , بل تستعمل أيضاً في إصدار الحكم بيد القاضي لأعلان إطلاق سراح أحدهم من العقاب أو الغرامة , أمّا في المسامحة فهي عن الذّنب أو إلغاء العقاب , هنا يكمن الفرق بين المسامحة , الغفران والتّبرير .

يعمل الله , عند مسامحتنا , بصورة مطلقة , على أساس إمتيازاته الملكيّة . أمّا في الغفران فالله يتعامل كأب . لذلك فانّه من إمتيازنا أن نسأله الغفران بالإعتراف له أمّا في التّبرير , يعمل الله كقاضي , الّذي يبرّرنا من كلّ ذنوبنا . تاركين محضره وكأنّنا لم نخطيء على الإطلاق , "  متبرّرين مجّاناً بنعمته بالفداء الّذي بيسوع المسيح  " ( رو 3 : 24)  من الجدير بالملاحظة , أنّ كلمة غفران اليونانية تستعمل أيضاً على يد الأطبّاء في السّياق الطبّي وتعني تهدئة الحمّى أو المرض .لدينا هنا أيضاً فكرة الشّفاء : فالّذي سامح وبرّر وغفر , ليس هو فقط صاحب السّلطة المطلقة ليسود علينا , بل هو أيضاً أبونا ليباركنا وقاضينا ليبرّرنا وطبيبنا الأعظم لشفائنا , وبكلمات ربّنا يسوع المسيح نفسه " .. لا يحتاج الأصحّاء الى طبيب بل المرضى . لم آتي لأدعو أبراراً بل خطاة الى التّوبة " ( لو 5 : 31 , 32 )

إنّه لم ينجز عملاً عظيماً لأجلنا فقط , بل قد إبتدأ وما زال مستمرّاً بعملٍ عظيمٍ فينا .

نوجز مقالنا هذا بقصّة أحدهم شارف على الموت , وكان ذا خليط عجيب من الخير والغباوة . عندما جاء محاميه ليكتب وصيّته , وبعد أن حرّر العديد من الكمبيالات بخمس مئة والف دولار , بل وأكثر من ذلك أيضاً فقال له : " سيّدي , لا أُصدّق أنّك تملك كل هذا لمال لتتركه " .

- " أوه ! " , أجابه قائلاً " إنّي أعرف ذلك تماماً مثلك , ولكنّي أردت فقط إظهار إرادتي الصّالحة تجاه أولئك النّاس " .

انّ مشيئة الله الصّالحة تجاه البشر , ليست مجرّد إدّعاء دون رصيد بمنح المواهب والعطايا , بل من نصيبنا ,  إكتشاف الفوائد والبركات الّتي تركها لنا في وصيّته , وأن نبحث عنها بنعمته , والتّمتُّع بها تماماً !