الروح القدس والكنيسة
إن أحد نصوص الكتاب التي لا غنى عنها بهذا الموضوع هو سفر أعمال الرّسل , حيث أشار احدهم في مكان معيّن, الى عنوان السفر " بأعمال الرّوح القدس " . يعطينا هذا الكتاب , بالإضافة إلى المعلومات عن فعّاليّات الروح القدس , الصيغة لمجتمع جديد – الكنيسة . هذان الاثنان : الكنيسة والرّوح القدس – مرتبطان برباط لا ينفصم وكما يبدو أيضاً , فإنّ الكنيسة قد تكوّنت نتيجة عمل الرّوح القدس . صحيح أنّ الروح القدس غير مرئي , ولكن تجلّيات الروح واضحة لذوي البصيرة الرّوحيّة , هذه الظهورات مُراقَبَةٌ في حياة وفعّاليّات الكنيسة بطرق عِدَّه . فلنقل أولاً بضع كلمات عن هذا الجسد .
يخرج المتأمّل في الكتاب باُنطباع, منذ خلق الانسان , عن سعي الله الدّؤوب للإتّصال والشّركة . ولكن من أجل شركة كهذه يجب أنْ يكون هناك توافق بالرّأي ( لاحظ صورة المحادثة عندما طالب يعقوب ويوحنّا إنزال نار من السّماء على السّامريّين والتى قوبِلَت بالتّوبيخ الصّارم , لوقا 2 : 55 ) . فقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله نافخاً في أنفه نسمة الحياة ( تك 1 : 26 ، 2 : 7 ) والمذكور في تك 3 : 8 عندما بحث الرب عن الإنسان في الجنّة بهبوب ريح النّهار مُذكّراً بالشّركة التي يشتهيها الله .
وآأسفاه ! فالخطيّة قد حَطَّمت تلك الإلفة , فإختار الله لنفسه شعباً – إسرائيل , كنزه الخاص ( مز 135 : 4 ) وقد أعلن الله لهذه الامّة أنّه سوف " أَسِيرُ بَيْنَكُمْ وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهاً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْباً " (لا 26 : 12 ) وأيضاً " حَسَبَ الْكَلاَمِ الَّذِي عَاهَدْتُكُمْ بِهِ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ وَرُوحِي قَائِمٌ فِي وَسَطِكُمْ. لاَ تَخَافُوا " ( حجي 2 : 5 ) . أمّا الآن فقد فشل هذا الشّعب ويبيّن بولس في رومية 9 – 11 , وبملء الزّمان , فقد وُضِعوا جانِباً لصالح مجتمع جديد لا يعرف التّمييز العنصري – هذا الجّسد الّجديد – الكنيسة – الّذي يتألّف من المؤمنين بربّنا يسوع المسيح , أمّة مُقدّسة , شعبٌ مُختار ( 1بط 2 : 9 ) . كيف ظهر هذا الجّسد ( مسكن الروح حيث حيث يُظهر نفسه ) الى الوجود ؟
الروح القدس كان فعّالا في ولادة الكنيسة . كما أنّ الروح القدس كان هو الأداه لخلق آدم , بفكر الرب يسوع المسيح , وفي الولادة الجديدة للمؤمن الفردي , فالآن هو أيضاً الأداة لولادة الكنيسة أيضاً . القصّة موجودة في أعمال 2 . إن الظّروف في تلك الأوقات كانت صعبة : فالسّلطات والعامّة كانوا عدائيين أو غير مُكترثين بيسوع المسيح ومتشكّكين بموت وقيامة الرب . إنّ إمكانيّات الكنيسة كانت هزيلة , التّلاميذ وشركائهم أظهروا ضعفاً لا يُؤهّلهم للقيام بحملة للإعلان عن الرب يسوع حيّاً وبأنّه ما زال رأس أتباعِه . ولكن مهما كانت ضعف هذه الشّركة فهناك أمور لا بد من ذكرها هنا :
واظبوا على الصّلاة ( أع 1 : 14 ) وإنه تخميناً مقبولاً أنّهم صلّوا من أجل نوال القوّة الموعوده بها من الربّ (1 : 8 ) .
قد ادركوا بأنّه , بغضّ النّظر عمّا يُخبِّأه لهم المستقبل , يجب أن تدور شهادتهم عن القيامة ( 1 : 22 ) .
لقد كانوا جسداً مُتَّحِداً , " كَانَ الْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ" (2 : 1 ) .
لقد حلّ الروح القدس على هذه الجّماعة والكنيسة وَلَدَت . لقد ذهب الأفراد حالاً للعمل بوحي من تلك القوّة الجديدة حيث أنّ العديد من النّاس قد سمعوا رسالتهم فقبلوها ونُخِسوا في قلوبهم وتجدد نحو 3000 نفس ( أع 2 : 41 ) . إن هذا التّجمّع من المؤمنين قد إنصهر في جسد حيوي واحد , واُستمرّوا بالشّركة والممارسات الرسوليّة ( 2 : 42 ) . لقد تم خلق هذا الجسد , ويجب ألاّ نتوقّع بأنْ يكون هناك إستمراريّة أو إعادة دقيقة لهذه الظّاهرة , المرافقة لفيض الروح الأوّلي . ولكن الأمر المؤكد بأنّ كنيسة مسيحيّة صحيحة قد ظهرت بفضل عمل الروح القدس لذلك يقول الرسول بأنّ كنيسة التسالونيكيين قد ظهرت للوجود من خلال رسالة الإنجيل وبقوّة الله ( 1 تس 1 : 5 , 6 ) . إنّ القصّة في أعمال 2 ما زالت مستمرّه يوما بعد يوم حيث يُضاف المؤمنين الّذين " فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ " (أف 1 : 13 ) . فمن هذه البداية في أورشليم إنتشرت الكنيسة واُجتمع المؤمنين سويّة , من اليهود والسّامريين والأُمم . إنّها مشيئة الله ان يكون له مكان لسكناه بين رجال كوّنوا كنيسته , وذلك لأنّ
الروح القدس يسكن في الكنيسة . لقد كتب أحدهم يقول : " حضور الله ( في الكنيسة ) هو حقيقة , وليس مجرّد عقيدة " , والحاجة هي الى إعلان بسيط لنقدّر هذه الحقيقة . إنّ الرسول بولس يكتب بإسهاب لكنيسة أوْ كنائس الأُمم , مظهراً بأنّ اليهود والأُمم , من خلال الإيمان الواحد بيسوع المسيح ربّنا , "الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلَّهِ فِي الرُّوحِ " ( أف 2 : 22 ) . هذا المسكن يوصف في العدد السّابق " هيكلا مقدّساً للرب " . فإنّ الأعضاء اليهود قد فَطِنوا بكل تاكيد بأكثر الأماكن قُدسيّة حيث يسكن تابوت الله , رمزاً لحضوره , والذي يتطلّب التقرّب الى هناك عناية صارمة . القداسة كانت ضروريّة . من المفيد أنْ نتذكّر بأنّ الروح القدس يسكن في الكنيسة , ولذلك , القداسة مطلوبة منّا , كأعضاء هذا الجسد ( انظر : 1كو3 : 16 , 17 ، 2كو6 : 16 , صورة الجسد 1كو 12: 27 , وكيف أن مَرَضْ أحد الاعضاء يُؤثِّر على الجميع ) .
هناك مثل مأساوي للسقوط في الايام الاولى : حالة حنانيّا وسفّيرا . فبِعَمَلِهِم هذا ظنّوا أنّهم يخدعون الكنيسة فقط , ولكن كلمات الدينونة التي قالها بطرس جديرة بالملاحظة " لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ " ( أع 5 : 3 , 9 ) . خداع الكنيسة هو كذب على الروح القدس الذي يسكن فيها .
إنّ تقدّم الكنيسة متعلّق كُلّه بالرّوح القدس , فعندما نتتبّع تجّدد بولس نرى هناك توقُّف مُؤقّت للإضطّهاد . فيكتب لوقا بان " الْكَنَائِسُ فِي جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْجَلِيلِ وَالسَّامِرَةِ فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ وَكَانَتْ تُبْنَى وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ الرَّبِّ وَبِتَعْزِيَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ كَانَتْ تَتَكَاثَرُ " ( أع 9 : 31 ) . أما الآن ففي حياة الجسد الجديد فواضح بأنّ الصّعوبات سوف تنشأ , فاليهودي والسّامري والأممي , قد إبتعد أحدهم عن الآخر بصورة كبيرة .أما الآن فانّهم يجتمعون بشركة واحدة , فهل من الممكن أنّ أُولئك الأعداء قد تَصالَحوا ؟ الذين كانوا مرّة غير قابلين للمصالحة ؟ أيُعقل ان يعيشوا معا بتناغُم ووحدة ؟ الجواب هو هذا :
سكنى الروح القدس هو رباط الوحدة في الكنيسة . في هذا السّياق لنلاحظ الاعداد :
1 كو 12 : 12 , 13 (بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ) .
أف 2 : 18 (كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ) .
أف 4 : 2 – 4 (جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ)
أنّه يشدد على " الروح الواحد " . وكما كتب أحد الثُقاة بان الرّباط في الكنيسة " ليس فقط الولاء للمسيح بل هو إشتراكنا بروحهِ ".
كيف يؤثّر هذا الحق على حياة الكنيسة ؟ !
يُقَدِّم سفر الاعمال صور تُدعَم بمعلومات من الرسل , بكيفيّة الحفاظ على هذه الوحدة:
ان الروح القدس هو الذي يوجّه سياسة الكنيسة . إن هذا واضح من المُسَجَّل بتوسّع عن كنيسة انطاكية ( أع 13 : 1 – 14 ) حيث يرشد روح الله الكنيسة لاُختيار برنابا وشاول لعمل خاص ويرسلهم قُدُماً . إنّ الكنيسة تتعاون سويّة . فمنذ الآن يظهر أعظم شأن في قبول الامم . كيف يجب أنْ يتم ذلك ؟ القرار كان بيد روح الله , كما كتب يعقوب " لأَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّوحُ الْقُدُسُ وَنَحْنُ أَنْ لاَ نَضَعَ عَلَيْكُمْ ثِقْلاً أَكْثَرَ غَيْرَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْوَاجِبَةِ : أَنْ تَمْتَنِعُوا عَمَّا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ وَعَنِ الدَّمِ وَالْمَخْنُوقِ وَالزِّنَا الَّتِي إِنْ حَفِظْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْهَا فَنِعِمَّا تَفْعَلُونَ. كُونُوا مُعَافَيْنَ " ( أع 15: 28 , 29 ) . ولكن من أجل إخراج هذه السّياسة إلى حيّز الوجود فنحن بحاجة إلى :
الروح القدس ليفرز رجال لمهمّات مُحدّدة . إن هذا واضح من كلمات بولس لشيوخ كنيسة أفسس ( " الرُّوحُ الْقُدُسُ .. أَسَاقِفَةً " , أع 20 : 28- 32 ) . مبكراً من تاريخ الكنيسة , تمّ إختيار سبعة رجال أُفرِزوا ليتعاملوا مع مشكلة ماليّة خاصّة – إستيفانوس واحد من السّبعة فإن " فَانْتَخِبُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ سَبْعَةَ رِجَالٍ " ," فَاخْتَارُوا اسْتِفَانُوسَ رَجُلاً مَمْلُوّاً مِنَ الإِيمَانِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ " (أع 6: 3, 5) . إنّ الرّوح هو الّذي حرّك فيلبُّس ليتكلّم مع خصِيّ الحبشة ( أع 8: 29) ويُخبر بطرس عن الرّجال الثّلاثة الآتين من عند كرنيليوس (أع 10: 19) , ولكن العمل الفردي ( مهما عظُمَ ) بدون دعم سيبقى عملا ضعيفاً . لذلك :
الروح القُدُس هو المزوّد الكامل للكنيسة . ان الحاجة العظمى هي للقوّة , لأنّ الكنيسة واجهت أعداء ألِدّاء . فإن بتفوّه الرب , المتعلّق بالكنيسة , لبطرس والذين معه , يُؤكّد لنا بأنّ " أَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا " (متى 16: 18) ولذك فإنّ بطرس رفض أنْ يتوانى , أع 4: 19 , ورأى في الاضطّهاد الذي يعانون منه تتميماً للمزمور الثّاني . إضطِّهاد السُلطات قادهم الى الصّلاة . ومرّه أُخرى يظهر الروح في الصّورة " وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلاَمِ اللهِ بِمُجَاهَرَةٍ " ( أع 4: 31) . لقد تبرهنت هذه القوّه بأعمال بولس وسيلا في تسالونيكي , حيث أعلن حكّام المدينة أن هؤلاء قد فتنوا المسكونة (أع 17: 6) . هذه كانت قوّة , ولكن أكثر من ذلك , فإنّ الروح القدس قد أغدق المواهب على الكنيسة , لتمكين الأعضاء من إستخدام هذه القوّة للمنفعة . إنّ بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس يُعطي إقراراً واضحاً فيما يتعلّق بإعطاء واستعمال المواهب , 1كو12: 4- 11 , " انواع .. يشاء " , وهناك مقطع مشابه أيضاً في رومية 12: 6- 8 ( الموهبة تختلف بحسب النّعمة المعطاة ) أفسس 4 : 4 – 12 ( الوحدة في الجسد , تنوّع المواهب ) . إنّ الروح القدس هو الذي يُعطي المواهب المتنوّعة , وإنّها من مسؤوليّة المُتَلَقِّي لهذه الموهبة أن يستخدمها لبنيان الكنيسة , لذلك :
الروح القدس هو الذي يوحي بعبادة الكنيسة . أفسس 5: 18-20 (" إمتلؤوا بالروح " ) هذا هو الاقتباس الاول المعنون للأفراد . ولكن إذا كان الفرد مملؤاً من الروح فانّه سوف يستطيع أنْ يساهم بالتّسبيح والعبادة الكنسيّة . إنّ بولس يوسّع هذا الفكر في 1كو11: 17 والاصحاحات 12, 13 , 14 ويفسّر كيف أنّ المواهب المختلفة تساعد في العبادة المشتركة , ونرى القمّة في 14: 25 , حيث يوجد غير مؤمن , آتياً للكنيسة , فيُوَبَّخ بالرّوح من خلال الاعضاء حيث " يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ لِلَّهِ مُنَادِياً أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ " ( 1كو14 : 25 ) .
وهكذا يرجع الموضوع مرّه أخرى للفكرة الاوّليَّة – الله يسكن بين شعبه – وإذا تاقت لكنيسة إلى إختبار هذا الكمال , هناك آية , تُعاد في سفر الرّؤيا " مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ " (رؤ 2: 7 ) .