المُصالَحَةِ
إنّ الله يُعِدُّ الوسائل ( حرفيّاً : يُفكّر أفكاراً ) لذلك المنفي من أمامه , كي لا يبقى منبوذاً الى الأبد . هذه كانت كلمات المرأة الحكيمة من تقوُّع , والّتي خطّطتْ , بتحريض من يوآب , لإقناع داوود لإرجاع أبشالوم المنبوذ ( 2 صم 14 : 14 ) .
إنّ الخطيّة , على أساس البر , هي الّتي أبعدَت الإنسان عن الله , لأنّ الله لا يستطيع أن يتحمّل الخطيَّة في محضرهِ . على كلّ حال , فإنّ النّبذ لم يُعمَل بيد الله , لأنّ محبّتهُ لا تتغيّر تجاه الخاطيء , على الرّغم من إضطرام غضبه على الخطيّة . يعِدُّ الله الوسائل لكي يتبرّر ويُبرّر الخُطاة , فإنّ أفكاره أفكار قداسة وأفكار محبّة وبواسطة الصّليب وموت إبنهِ , إستطاع إظهار المصالحة البارّة تجاه الخاطيء , رغم كوننا بعد أعداء , غرباء وخصوم لله ," لأنّه إن كنّا ونحن أعداء قد صولِحْنا مع الله ( ليس مصالحة الله لنا بل مصالحتنا نحن مع الله ) بموت إبنهِ فبالأولى كثيراً ونحن مصالحُون نخلصُ بحياتِهِ " ( رو 5 : 10 ) .من المثير أن نلاحظ عند دراستنا لكلمة " مصالحة " باستعمالها يُنشِئُ فينا فكرين ممتزجين : الاوّل , عمل تغيير في طرف بفعل تأثير الطّرف الآخر – مصالحة الله لنا بواسطة موت إبنه . ثانياً , بوجود عداوة متبادلة ينتج إتّهامات متبادلة ( كما في مت 5 : 24 ) بين الإنسان وأخيه . دعنا نلاحظ إذاً :
1) المصالحة بين الإنسان والإنسان , ( مت 5 : 24 )
هذا هو المكان الوحيد الّذي تذكر فيه هذه الكلمة باليونانيّة . كما سبق ولاحظنا سابقاً , بأنّه حيث هناك الكراهيّة المتبادلة لا بد أن يكون إتّهامات متبادلة . لا يوجد إمكانيّة " لترقيع " الموضوع حيث الله والإنسان مهتمّين به . حسنا نفعل إذا تذكّرنا بانّه طالما هنلك عدم توافق بين الإنسان وأخيه , فمن العبث تقديم قرابين لله .
2) المصالحة بين اليهود والأمم المؤمنين
" وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ " ( أف 2 : 16 ) . لقد عبّر أحدهم عن هذه الوحدة قائلاً : " لم يسمح الرّسول لأهل أفسس بنسيان الماضي لئلاّ يستهينوا بالحاضر المبارك " . لقد إهتم بتذكيرهم أنّهم لم يُحْضروا الى مكان النّعمة فقط , بل الى كل غنى إمتيازات العهد . إنّهم شركاء , في إسرائيل الحقيقي بكل الوعود . لا يوجد فيما بعد أيّ مقيم أو أجنبي , قاطن في ضواحي صهيون المقدّسة , بل مواطنة كاملة في المكان , أعضاء العائلة الملكيّة , بحيث لا يمكن تقريبهم الى الله أكثر , لأنّهم في المسيح . في السّابق كانوا خارجاً ولم يكن لهم حق في الخلاص , ليس بكونهم بشر ساقطين وخطاة بل أيضاً أُمماً واقفين على ارضيّة حيث طالهم الفداء .. لقد كانت نعمة من الأوّل الى الآخر "
3) المصالحة بين الإنسان والله
" وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً اجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ الآنَ..فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ وَلاَ شَكْوَى امَامَهُ " ( كو 1 : 21 , 22 ) . لا يتكلّم هنا عن الأمم واليهود , الّذي سبق وتكلّمنا عنه , بل التّغيير الجّذري في المؤمن الفرد من الغربة والعداوة . المصالحة عي ما أنجزه الله , بالنّعمة , تجاه الإنسان على أساس موت المسيح . لقد مارس الدّينونة من جهّة الخطيّة , والله سامحنا ( نحن المؤمنين ) لنفسه بالمسيح , وأعطانا خدمة أو كلمة المصالحة , " وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، .أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. " ( 2 كو 5 : 18 , 19 ) إنّ الفكرة هنا ليست عن وحدة اللاهوت ( الله في المسيح ) بل ما قد فعله الله لمصالحتنا تمّ فعله في المسيح ومؤسّس عللى الحقيقة أنّ ذاك الّذي لم يعرف خطيّة , صار خطيّة لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه .ولذلك , وبكوننا سفراء للمسيح , نطلب نحن عنه أنْ يتصالح النّاس مع الله , وذلك بتغيير كل توجّهاتهم ويقبلون غنى النّعمة المذّخرة بالمسيح الّتي أتمّها الله لهم . طالما ذلك التّغيير في التّوجُّه لم يحصل فإنّ البشر تحت الدّينونة ومعرّضين لغضب الله . إنّ موت الرّب يسوع المسيح هو الأساس الّذي عليه يمكن إزالة ذلك الغضب , وبه الآن ننال المصالحة ( رو 5 : 11 ) .
تُرجمت هذه الكلمة ببعض الكتب الى " كفّارة " , وهذا غير صحيح . فالكفّارة هي تقدّم نفسها في المسيح تحت الدّينونة الإلهيّة بسبب الخطيّة . فنحن لا نأخذ " الكفّارة " بل نتيجتها , أي " المصالحة " .
قد يُطرح السّؤال : " ألا يتعارض إبعاد غضب الله مع ثباته ؟ " الجّواب هو أنّ الله نور والله محبّة , ويجب أن نميّز بين هذا وبين سخطه وحنقه على الشر وبين الغضب والعداوة . عندمت إنْتُقِدَ الرّب يسوع المسيح بسبب شفاءه في يوم السّبت كتب أنّه " نظر حوله بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم " ( مر 3 : 5 ) هنا يوجد غضب بدون عدو , سخط مقدّس ممزوج بمحبّة مُتَّقدة . التّغيير في توجّه الله النّسبي تجاه أولئك الّذين قبلوا المصالحة يبرهن على أنّه غير قابل للتّغيير حقّاً . كم مرّة يدعو الله للمصالحة !! العداوة من طرفنا نحن فقط .
4) مصالحة كل شيء
إنّها المشيئة الإلهيّة , " وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ امْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ " , ( كو 1 : 20 ) , إنّ الله سوف "لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ " , ( أف 1 : 10 ) . الأمور الّتي " تحت الأرض " والّتي لم تُصالح , سوف تُقْهر لأنّه سوف " تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ..وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. " ( فيلبي 2 : 10 , 11 ) .